حميد طالبي و إعداد لحسن أمقران العاصمي
من منا يتذكر من هو " أدوّاب" ؟ كلمة بدأ شباب اليوم يعدمها، ويجهل مؤداها ومعناها. " أدواب" هو ذلك الشخص الذي يتكفل بحراسة "ئمي ن ئغرم" (باب القصر) ، غير أن أدواره لا تقتصر على الحراسة فحسب، بل يقوم بوظائف عدة ومتنوعة، سآتي على ذكرها في مناسبة قادمة بحول الله. فبالإضافة إلى التكفل بـ" ئمي ن ئغرم"، يتولى " أدوّاب "مهمة تربية " أزكر ن تقبيلت" (ثور القبيلة) وتوفير العلف له.
لكن كيف له أن يوفر له هذا العلف؟ هذا الأمر لا يطرح أي إشكال حيث يقوم " أدوّاب" عند عودة النساء - زمرا أو فرادى - من الحقول وعلى ظهورهن - أو على متون الحمير والبغال - أكوام الفصة والكلأ، بأخذ قسط معين (" ئربي" ،" تاقرضييت" ...) ، ويقدمه للعجل أو من تلقاء النساء أنفسهن، حيث بمجرد وصولهن مربط العجل إلا ويقدمن له ما جادت به الحقول( جريد النخل، فصة، "أفار"، " توكا " ...).
هذا العجل، تتم تربيته إلى أن يشتد ويسمن انتظارا حلول مناسبة متجذرة لها مدلولها التاريخي لدى سكان القصور ألا وهي " أكدود ن تزلافين "(موسم القصعات). في اليوم الموعود، يتم أخذ العجل من طرف المكلف بذبحه في جولة حول "ئغرم"، أو في أغلب الأزقة مع مجموعة من الأولاد، حيث يكثربينهم الحماس والتدافع والتصايح ويتطاير الغبار في جو من الضحك والمرح، وهم يكررون معه أدعية بالأمازيغية والدارجة المغربية من مثل " في وجه نبينا …. ربي اعفُ علينا " و " ئمّوت الشيخ برّيض … ؤرت ئتّرحام ربي "... حيث يقوم فريق بترديد الشطر الأول، بينما الفريق الآخر ترديد الشطر الثاني. بعد هذه الجولة، يتم ذبح العجل في مكان غير بعيد عن باب القصر، بحضور جمهور غفير من الأولاد والنساء ورجال القبيلة، حيث تتلاقى التكبيرات والتهليلات والزغاريد والصيحات في جو ذي مسحة فريدة.
بعد عملية الذبح والسلخ، يتم تقطيع العجل وتوزيع لحمه إلى أنصبة ومجموعات تسمى " ئبضان " أو " لوزيعت " : يتم تخصيص جزء من العجل للأسر المكلفة بإعداد الكسكس ( سكسو س ؤكسوم) ، حيث يعطى مقدار معين من اللحم لكل أسرة تطوعت أو تكلفت بتحضير الكسكس، ويراعى تساوي الأنصبة الموزعة.
بينما يخصص ما تبقى منه من لحم وجلد وأمعاء (تاكنسوت) وشحم للبيع على شكل " تادلاّلت " (المزاد العلني) ، حيث يقسم اللحم إلى كيلوغرامات معينة ويقوم أحد رجال القبيلة بمهمة الإشراف على عملية " تادلاّلت "، إذ يحدد النصيب الذي سيخضع للمزايدة مع تحديد الثمن الأدنى – ويكون في الغالب أرخص بكثير من الثمن العادي لبيع اللحم – كما أنه من حق المشرف على المزاد المشاركة أيضا، وترسو عملية المزاد عند الذي يقترح سعرا أعلى بحيث لا يستطيع الآخرون منافسته. والطريف في الأمر أن " تاغنّانت" (المنافسة) قد تدفع ببعض الميسورين إلى دفع مبلغ مبالغ فيه للظفر بكتلة لحمية يسيرة، حيث هوس الإباء والمنزلة يزيغ بأصحابه عن سكة المنطق والتعقل، غير أن ميزانية القبيلة – من منطلق مصائب قوم عند قوم فوائد – تستملح مثل هذه المناكفات، بيد أن الفقير المحتاج يكتفي بالتفرج والتذمر، رغم أنه لا أحد يغادر المكان دون أن ينعم بما قل أو كثر من لحم العجل. وبالطريقة نفسها يباع الجلد والأمعاء والشحم.
ولا يكون المشتري ملزما بأداء الثمن في عين المكان – إلا إذا كان ميسور الحال وأراد الدفع فله ذلك – بل تعطى له مهلة طويلة تمكنه من أداء ثمن ما ابتاعه بأريحية ودون إلحاح، حيث يدون اسم كل من اشترى اللحم ولم يؤد ما عليه، وكذا قيمة الدين الذي في ذمة كل واحد منهم وذلك في دفتر يحتفظ به شيخ القبيلة. غير أنه باقتراب موسم هذه من المناسبة من السنة المقبلة، يكون لزاما على المستفيدين أداء ما عليهم من دين وإلا سيتعرضون للشرط الجزائية( " ئزماز " – الحرمان من الاستفادة من لحم عجل السنة المقبلة ...).
وفي عشية ذلك اليوم، عندما تبدأ الشمس في سحب خيوط أشعتها، تتقاطر النساء المكلفات بإعداد أطباق الكسكس على مكان الحفل الجماعي ("أنرار") وعلى رؤوسهن " تيزلافين "، حيث يكون هناك مكلف بترتيبها وتعرف القصعة الخاصة بكل أسرة، ويقابل قدوم إحداهن بالهتافات من لدن حشد عظيم من سكان القصر وأحيانا من القصور الأخرى – وإن كانت هذه العادة شبه عامة – فيما يشبه نوعا من الاحتراف. هذا الجمع الغفير يحج إلى "أنرار" منذ وقت مبكر، حيث يمارس الأطفال هواية الركض واللعب، وينخرط الشباب في حلقات " تاقرفييت"، و تتعالى حشرجات المناقشات في مجالس الرجال في مقابل همسات وهمهمات متقطعة تتسلل من مجامع النسوة. وهكذا إلى أن ترى عددا كبيرا من القصعات وهي موضوعة على الأرض بترتيب وعناية. تقسم " تيزلافين " إلى ثلاث مجموعات : مجموعة خاصة بالرجال والشيوخ، مجموعة خاصة بالنساء والبنات، ومجموعة خاصة بالشباب والأطفال.
يعطي المكلف بعملية التنظيم أمر البدء، فتنهال الجموع على القصعات متحلقين حولها لتناول الكسكس واقتسام اللحم – هذا الأخير غالبا ما يتم التنازع حوله، أو سرقته منذ البداية في جو من الفكاهة والهزل والمكر والدهاء خاصة في صفوف الشباب والأطفال – ومن ثم يتم الحكم على " تازلافت ن أيت فلان" إما بالاستحسان فيضربون معها موعدا في السنة المقبلة، أو بالتهجين فتصبح موضوع نكاية تلوكه الألسن، و يكون ذلك في جو من الفرح والبهجة. تنشغل النساء اللائي تكفلن بإعداد الكسكس بمراقبة قصعاتهن لأخذها إلى منازلهن بعد انتهاء مهرجان الأكل الجماعي مخافة ضياعها.
وفي ختام هذا الـ "أكدود"، تشكل الجموع الحاضرة حلقة كبيرة، فيتقدم فقيه القبيلة إلى وسطها - أو يصطف كالآخرين – فيلهج لسانه بالدعاء والتهليل والتسبيح كطلب الغفران والعطاء والستر والنصرة والغيث وجمع شمل القبيلة ... وتقابلها الجموع بـ (آمين ... آمين ...) حيث يعلو الصوت ليناطح عنان السماء. وعندما يفرغ الإمام من الدعاء، يعمد الشباب إلى شيخ القبيلة ويحمل على الأكتاف، وتعلو الأهازيج والزغاريد، ثم تتفرق الجموع عند سماع أذان العشاء ويسدل الستار على الـ " أكدود ".
وفي صباح اليوم الموالي، تكون هناك "تيزلافين " أخرى – تركت حتى الصباح حيث طلب من أصحابها عدم عرضها أمس في " أنرار" – تعرض أمام منازل معديها، فيقدم الناس على التهام أطباق الكسكس داعين لأرباب البيوت بالبركة واليمن وصالح الدعاء.
وعند قدوم السنة المقبلة، واقتراب موعد " أكدود ن تزلافين "، يؤدي المشترون المدينون ما عليهم من دين، فتشتري القبيلة عجلا آخر، وتعمل على تسمينه وتقويته وتربيته استعدادا للاحتفال بالكسكس كعريس من جديد. ولا بد من الإشارة إلى أن " أدواب " الذي يتكلف بعلف عجل القبيلة حتى يشتد عضده، يخصص له نصيب محترم من لحمه جزاء واعترافا بخدماته. ومما يذكره الشيوخ الطواعن في السن أن سكان القصور قد اعتادوا في وقت من الأوقات على ذبح عجول وثيران سوداء اللون وذلك لمواسم عديدة، وهذا ما شكل إلهاما للكاتب التنجدادي " العييد" ( ابن "كردمييت") فعنون روايته بـ :
« le sacrifice des vaches noires »
من منا يتذكر من هو " أدوّاب" ؟ كلمة بدأ شباب اليوم يعدمها، ويجهل مؤداها ومعناها. " أدواب" هو ذلك الشخص الذي يتكفل بحراسة "ئمي ن ئغرم" (باب القصر) ، غير أن أدواره لا تقتصر على الحراسة فحسب، بل يقوم بوظائف عدة ومتنوعة، سآتي على ذكرها في مناسبة قادمة بحول الله. فبالإضافة إلى التكفل بـ" ئمي ن ئغرم"، يتولى " أدوّاب "مهمة تربية " أزكر ن تقبيلت" (ثور القبيلة) وتوفير العلف له.
لكن كيف له أن يوفر له هذا العلف؟ هذا الأمر لا يطرح أي إشكال حيث يقوم " أدوّاب" عند عودة النساء - زمرا أو فرادى - من الحقول وعلى ظهورهن - أو على متون الحمير والبغال - أكوام الفصة والكلأ، بأخذ قسط معين (" ئربي" ،" تاقرضييت" ...) ، ويقدمه للعجل أو من تلقاء النساء أنفسهن، حيث بمجرد وصولهن مربط العجل إلا ويقدمن له ما جادت به الحقول( جريد النخل، فصة، "أفار"، " توكا " ...).
هذا العجل، تتم تربيته إلى أن يشتد ويسمن انتظارا حلول مناسبة متجذرة لها مدلولها التاريخي لدى سكان القصور ألا وهي " أكدود ن تزلافين "(موسم القصعات). في اليوم الموعود، يتم أخذ العجل من طرف المكلف بذبحه في جولة حول "ئغرم"، أو في أغلب الأزقة مع مجموعة من الأولاد، حيث يكثربينهم الحماس والتدافع والتصايح ويتطاير الغبار في جو من الضحك والمرح، وهم يكررون معه أدعية بالأمازيغية والدارجة المغربية من مثل " في وجه نبينا …. ربي اعفُ علينا " و " ئمّوت الشيخ برّيض … ؤرت ئتّرحام ربي "... حيث يقوم فريق بترديد الشطر الأول، بينما الفريق الآخر ترديد الشطر الثاني. بعد هذه الجولة، يتم ذبح العجل في مكان غير بعيد عن باب القصر، بحضور جمهور غفير من الأولاد والنساء ورجال القبيلة، حيث تتلاقى التكبيرات والتهليلات والزغاريد والصيحات في جو ذي مسحة فريدة.
بعد عملية الذبح والسلخ، يتم تقطيع العجل وتوزيع لحمه إلى أنصبة ومجموعات تسمى " ئبضان " أو " لوزيعت " : يتم تخصيص جزء من العجل للأسر المكلفة بإعداد الكسكس ( سكسو س ؤكسوم) ، حيث يعطى مقدار معين من اللحم لكل أسرة تطوعت أو تكلفت بتحضير الكسكس، ويراعى تساوي الأنصبة الموزعة.
بينما يخصص ما تبقى منه من لحم وجلد وأمعاء (تاكنسوت) وشحم للبيع على شكل " تادلاّلت " (المزاد العلني) ، حيث يقسم اللحم إلى كيلوغرامات معينة ويقوم أحد رجال القبيلة بمهمة الإشراف على عملية " تادلاّلت "، إذ يحدد النصيب الذي سيخضع للمزايدة مع تحديد الثمن الأدنى – ويكون في الغالب أرخص بكثير من الثمن العادي لبيع اللحم – كما أنه من حق المشرف على المزاد المشاركة أيضا، وترسو عملية المزاد عند الذي يقترح سعرا أعلى بحيث لا يستطيع الآخرون منافسته. والطريف في الأمر أن " تاغنّانت" (المنافسة) قد تدفع ببعض الميسورين إلى دفع مبلغ مبالغ فيه للظفر بكتلة لحمية يسيرة، حيث هوس الإباء والمنزلة يزيغ بأصحابه عن سكة المنطق والتعقل، غير أن ميزانية القبيلة – من منطلق مصائب قوم عند قوم فوائد – تستملح مثل هذه المناكفات، بيد أن الفقير المحتاج يكتفي بالتفرج والتذمر، رغم أنه لا أحد يغادر المكان دون أن ينعم بما قل أو كثر من لحم العجل. وبالطريقة نفسها يباع الجلد والأمعاء والشحم.
ولا يكون المشتري ملزما بأداء الثمن في عين المكان – إلا إذا كان ميسور الحال وأراد الدفع فله ذلك – بل تعطى له مهلة طويلة تمكنه من أداء ثمن ما ابتاعه بأريحية ودون إلحاح، حيث يدون اسم كل من اشترى اللحم ولم يؤد ما عليه، وكذا قيمة الدين الذي في ذمة كل واحد منهم وذلك في دفتر يحتفظ به شيخ القبيلة. غير أنه باقتراب موسم هذه من المناسبة من السنة المقبلة، يكون لزاما على المستفيدين أداء ما عليهم من دين وإلا سيتعرضون للشرط الجزائية( " ئزماز " – الحرمان من الاستفادة من لحم عجل السنة المقبلة ...).
وفي عشية ذلك اليوم، عندما تبدأ الشمس في سحب خيوط أشعتها، تتقاطر النساء المكلفات بإعداد أطباق الكسكس على مكان الحفل الجماعي ("أنرار") وعلى رؤوسهن " تيزلافين "، حيث يكون هناك مكلف بترتيبها وتعرف القصعة الخاصة بكل أسرة، ويقابل قدوم إحداهن بالهتافات من لدن حشد عظيم من سكان القصر وأحيانا من القصور الأخرى – وإن كانت هذه العادة شبه عامة – فيما يشبه نوعا من الاحتراف. هذا الجمع الغفير يحج إلى "أنرار" منذ وقت مبكر، حيث يمارس الأطفال هواية الركض واللعب، وينخرط الشباب في حلقات " تاقرفييت"، و تتعالى حشرجات المناقشات في مجالس الرجال في مقابل همسات وهمهمات متقطعة تتسلل من مجامع النسوة. وهكذا إلى أن ترى عددا كبيرا من القصعات وهي موضوعة على الأرض بترتيب وعناية. تقسم " تيزلافين " إلى ثلاث مجموعات : مجموعة خاصة بالرجال والشيوخ، مجموعة خاصة بالنساء والبنات، ومجموعة خاصة بالشباب والأطفال.
يعطي المكلف بعملية التنظيم أمر البدء، فتنهال الجموع على القصعات متحلقين حولها لتناول الكسكس واقتسام اللحم – هذا الأخير غالبا ما يتم التنازع حوله، أو سرقته منذ البداية في جو من الفكاهة والهزل والمكر والدهاء خاصة في صفوف الشباب والأطفال – ومن ثم يتم الحكم على " تازلافت ن أيت فلان" إما بالاستحسان فيضربون معها موعدا في السنة المقبلة، أو بالتهجين فتصبح موضوع نكاية تلوكه الألسن، و يكون ذلك في جو من الفرح والبهجة. تنشغل النساء اللائي تكفلن بإعداد الكسكس بمراقبة قصعاتهن لأخذها إلى منازلهن بعد انتهاء مهرجان الأكل الجماعي مخافة ضياعها.
وفي ختام هذا الـ "أكدود"، تشكل الجموع الحاضرة حلقة كبيرة، فيتقدم فقيه القبيلة إلى وسطها - أو يصطف كالآخرين – فيلهج لسانه بالدعاء والتهليل والتسبيح كطلب الغفران والعطاء والستر والنصرة والغيث وجمع شمل القبيلة ... وتقابلها الجموع بـ (آمين ... آمين ...) حيث يعلو الصوت ليناطح عنان السماء. وعندما يفرغ الإمام من الدعاء، يعمد الشباب إلى شيخ القبيلة ويحمل على الأكتاف، وتعلو الأهازيج والزغاريد، ثم تتفرق الجموع عند سماع أذان العشاء ويسدل الستار على الـ " أكدود ".
وفي صباح اليوم الموالي، تكون هناك "تيزلافين " أخرى – تركت حتى الصباح حيث طلب من أصحابها عدم عرضها أمس في " أنرار" – تعرض أمام منازل معديها، فيقدم الناس على التهام أطباق الكسكس داعين لأرباب البيوت بالبركة واليمن وصالح الدعاء.
وعند قدوم السنة المقبلة، واقتراب موعد " أكدود ن تزلافين "، يؤدي المشترون المدينون ما عليهم من دين، فتشتري القبيلة عجلا آخر، وتعمل على تسمينه وتقويته وتربيته استعدادا للاحتفال بالكسكس كعريس من جديد. ولا بد من الإشارة إلى أن " أدواب " الذي يتكلف بعلف عجل القبيلة حتى يشتد عضده، يخصص له نصيب محترم من لحمه جزاء واعترافا بخدماته. ومما يذكره الشيوخ الطواعن في السن أن سكان القصور قد اعتادوا في وقت من الأوقات على ذبح عجول وثيران سوداء اللون وذلك لمواسم عديدة، وهذا ما شكل إلهاما للكاتب التنجدادي " العييد" ( ابن "كردمييت") فعنون روايته بـ :
« le sacrifice des vaches noires »